فن

«ست أقدام تحت الأرض»: هل حان الموعد المناسب للموت؟

كثير من المعلقين يقولون إن هذا المسلسل غيَّر حياتهم أو أن نهايته حطمت قلوبهم، منبع ذلك هو أنه تعمق بصدق في أكثر مخاوف مشاهديه، ولذلك فهو عمل لا يُنسى.

future بوستر مسلسل «ست أقدام تحت الأرض»

هل هناك كابوس أسوأ من أن تموت في اللحظة التي تدرك فيها أخيراً الغاية من حياتك؟

قصة عائلة تواجه الموت يومياً

هذا السؤال يؤرق كاتب السيناريو آلان بول بشدة، طرحه من قبل في فيلمه الجمال الأمريكي، وهو هنا يطرحه مجدداً بعدة تنويعات مختلفة، خلال أحداث العمل الذي تدور أحداثه حول عائلة تمتلك دار جنازات، تستقبل المتوفين كل يوم وتعمل على إنهاء جميع الإجراءات، بدءًا من استلام الجثة من المشفى أو المشرحة، وانتهاءً بالدفن ومراسم التأبين.

مشهد من مسلسل «ست أقدام تحت الأرض»

مسلسل أشبه بجلسة علاج نفسي

العلاج السلوكي المعرفي هو أحد أساليب العلاج النفسي، للعديد من الأمراض التي تشترك في عدة أعراض، مثل فقدان الرغبة في الحياة، عدم تقبل الذات، الشعور بالاضطهاد، الخوف والقلق المرضي المستمر، أعراض تمثل النواة لأمراض مثل الوسواس القهري والرهاب والاكتئاب … إلخ، وهذا المسلسل يبدو كما لو كان جلسة علاج نفسي طويلة بعدد الحلقات الثلاث والستين، ليس بمستغرب أن يكون آلان بول واعياً لهذا الأمر، وأراد تفريغ مخاوفه على الورق، فالعمل ممتلئ بالأطباء والمعالجين النفسيين، وحالة مرضية واضحة وحالات أخرى كألوان الطيف.

ما يفجر كل هذا هو الوفاة المفاجئة للأب ناثانيال فيشر مؤسس دار الجنائز في حادث سيارة مروع وهو عائد إلى الدار بسيارة الجنائز الجديدة، ليكون هو أول متوفًى يُنقل فيها. كان من المفترض أن تجتمع الأسرة معاً للمرة الأولى منذ سنوات طويلة للاحتفال بليلة عيد الميلاد، ولأجل هذا السبب يعود الابن الأكبر نيت فيشر من سياتل ليصعقه الخبر هو وأخوه ديفيد وأخته كلير ووالدتهم روث، لتتحول ليلة الاحتفال إلى ليلة التعرف على جثة الوالد في المشرحة، وتجهيزه للدفن في اليوم التالي، ومن هنا يطفو على السطح ما كان يبدو أنه كُبِتَ لفترة طويلة من الزمن، علاقات متصدعة والكثير جداً من الجحود والألم، في انتظار من ينظر في أمرها لمعالجتها، وربما فقط لأنه حان الوقت لأن تظهر.

الأخ الأكبر نيت فيشر الذي ترك المنزل في عمر مبكر يعود ليجد أن عمل عائلته مهدد بالإفلاس بعد وفاة أبيه، ووجود شركة كبيرة تسعى لاحتكار العمل برمته، ويجد أمه منهارة عصبياً، وهناك جبل جليدي ضخم يبعده عن إخوته، وهنا يوافق على رغبة والدته في البقاء معهم، مؤجلاً سفره إلى أجل غير مسمى، ليكتشف أن انهيار أمه لم يكن حزناً على زوجها ولكن لشعورها بالذنب لأنها كانت تخونه، وأن ديفيد الذي يتعامل مع كل شيء بجمود وآلية كما لو كان غير معني بأي شيء، لم يكن في الحقيقة سوى قناع خشن صنعه باحترافية ليخفي وراءه رجلاً مثلياً شديد الحساسية غارقاً في الحب حتى أذنيه مع صديقه الشرطي كيث، وأن كلير الطائشة التي قابلها للمرة الأولى وهي منتشية من أثر المخدرات، ليست أكثر من مجرد فتاة طيبة تشعر فقط بحنق من العالم وتبحث عن الحب.

مشهد من فيلم الجمال الأمريكي

آلان بول يقدم مسلسلاً يؤكد بصمته المميزة

التشابه واضح كالشمس بين شخصيتي نيت فيشر وشخصية لستر برنم من فيلم الجمال الأمريكي، هناك اختلافات جذرية بكل تأكيد، ولكن كليهما ترك نهر الحياة يقود زورقه دون أن يكون له رأيه الخاص، لستر يبدو أكثر استسلاماً وكل ثوراته كانت في نطاق عقله، بينما يبدو نيت معارضاً لكل شيء بشكل أوضح، ولكن في جوهر الأمر كان فقط يفعل ما يراه واجباً أن يحدث، وليس ما يرغب حقاً في فعله؛ استقراره في العمل العائلي، زواجه، عودته إلى العمل مجدداً، زواجه مرة أخرى، كلها ثورات صغيرة لا تفضي إلى شيء، ومن ثم يكتشف كلاهما زيف المساعي وخداع الرغبات، لستر يمارس الرياضة من أجل أن يثير إعجاب فتاة، يكتشف لاحقاً أنها ليست كما تخيلها، ونيت ممتنع عن تناول اللحوم الحمراء لسنوات طويلة، ويركض يومياً خمسة أميال ليحافظ على صحته، ليكتشف أيضاً أن ذلك لم يجعله منيعاً ضد المرض، الحياة أقوى بكثير منهما، حتى على مستوى الأمنيات البسيطة، ليس في يديهما شيء يفعلانه، أقصى متعة يحصلان عليها بعد ركض طويل هي الاستمتاع بتعاطي الماريجوانا، لعلها تمنح هذا الجسد المرهق قدراً من الخدر اللذيذ.

مشهد من مسلسل: «ست أقدام تحت الأرض»

الأم روث تفعل العكس تماماً، هي لا تضع الآخرين في الاعتبار، لأنها تخاف بشدة من الوحدة، تدرك أنها مسألة وقت والجميع سيتزوج وسوف يتركونها وحيدة في المنزل، ربما لم نفهم تماماً ما الذي حدث في زواجها من ناثانيال، ولكن مما يظهر تباعاً في الحلقات أنه أيضاً لم يكن سعيداً، كانت لديه غرفة منعزلة لا أحد يعرف عنها شيئاً، متى كان يذهب إلى هناك؟ ولماذا؟ وكم تطول مدته؟ كلها أسئلة بلا إجابات، ولكن الواضح أن زواجهما كان يُحتضَر فعلاً، وأنه كان بين غرفته المنعزلة وبين عمله في قبو المنزل تاركاً إياها ساعات طويلة، وهو نفس السبب الذي يحركها تجاه كل علاقة جديدة باندفاع صبياني، والفارق بين مغامراتها المتعددة وبين سوء حظ كلير يخلق مفارقة ساخرة، فبينما الأم تنتقل من شريك إلى آخر، تتعثر ابنتها الشابة الجميلة في حظ شديد السوء، بين مجرم وآخر مختل عقلياً، وكأنها حقل مغناطيسي يجذب كل الرجال غير المناسبين، مما يدفعها إلى تجارب غريبة دون فائدة لفترة طويلة.

روث أيضاً تمثل علاقاتها المتعددة مفارقة حتى مع أختها ماجي، فبينما تعيش ماجي حياة بوهيمية بالكامل حيث لا نعرف لها أسرة أو شريكاً أو أي سياق اجتماعي مفهوم، فإننا لا نشعر أن تلك المرأة ذات علاقات متعددة مفتوحة في فوضى عارمة، بعكس أختها روث التي تنفجر كبركان إزاء أقل إيحاء جنسي لها من قبل الرجال في غير موضعه، تلك المقارنة التي يجريها آلان بول بين الأختين، يضعنا في حالتين مختلفتين بين امرأة لديها ثلاثة أبناء كبار ولديها رهاب شديد من الوحدة، وامرأة أخرى لم تتمكن من الإنجاب على الإطلاق، وليس لديها ما تخشاه فأصبحت تستمتع بالحياة بطريقة بسيطة؛ تعيش مع صديقة، تقيم حفلات، تذهب في رحلات بين الحين والآخر، هكذا ببساطة دون أن يطاردها شبح الوحدة في كل ليلة؛ لأنها ببساطة … تجاوزته.

مشهد من نفس المسلسل: «ستة أقدام تحت الأرض»

عن المخاوف التي تقض مضاجعنا

في الجمال الأمريكي هناك ثلاث شخصيات تُظهر صورة زائفة تفضح نمط مخاوفهم، سيدة أربعينية مهووسة بأن تبدو ناجحة وتردد بلا توقف: «الأهم من النجاح هو أن تعكس صورة النجاح»، فقط للتغطية على فشلها في العمل، ورجل مثلي يلعن المثليين ليل نهار، ونظن طوال الوقت أنه مصاب برهاب المثلية؛ لنكتشف أنه في حقيقة الأمر مثلي يخشى أن ينفضح أمره، وفتاة تقليدية تحاول أن تصور نفسها كفتاة لعوب عاشرت رجالاً لا يمكن حصرهم، لنكتشف أنها عذراء مرعوبة من فكرة أن تكون مجرد فتاة تقليدية لا تلفت انتباه أحد.

نجد أصداءً لهذه الشخصيات في هذا العمل أيضا تماماً كلستر برنم، فكما هو واضح أن آلان بول كان لديه الكثير ليقوله، ولكن ساعتي زمن الفيلم لم تسعفه لطرح كل ما يجول في خاطره، مارجريت والدة برندا حبيبة نيت فيشر، هي امرأة ناجحة في عملها طبيبة نفسية تماماً مثل زوجها، ولكنها مهووسة بأن تُظهر نجاح زواجها باستمرار، ولذلك تزعم أن علاقاتها خارج الزواج وعلاقات زوجها تتم بالاتفاق والتراضي، نحن لا نراها أبداً مع شخص غير زوجها، ولكنها تروِّج لذلك تفادياً للصورة السلبية، حتى تنكشف أمام ابنتها عندما تعلم أن زوجها على علاقة بامرأة أخرى، وهنا تنفجر فيها بكل ما أوتيت من قوة، وبالرغم من الانفصال الظاهري مع زوجها في ذلك الوقت، فإنها أسرعت لإصلاح الصورة قبل أن تنكسر إلى الأبد، هي لم تكن تحبه حقيقة، بدليل أنها لم تراعِ وصيته وقذفت برماده من شرفتها، بدلاً من أن تنثره في أحد أماكنه المفضلة، وما لبثت إلا أن ظهرت سعيدة في علاقة جديدة بسرعة.

من ناحية أخرى يعاني ديفيد فيشر صعوبة حقيقية في تقبل نفسه كشخص مثلي، يمارس الإنكار لفترة طويلة من الزمن ثم يسقط قناعه الجليدي أمام أفراد عائلته واحداً تلو الآخر، وبصعوبة أكبر أمام الأغراب. مجتمع العمل. مجتمع الكنيسة، ولكن الصعوبة الكبرى هي أمام نفسه، ديفيد يخاف من النكران ومن الرفض، يخشى نظرات الاحتقار والاستهجان في كل أرض جديدة تطؤها قدماه، لأنه ببساطة يرفض نفسه في أعماقه السحيقة، ولأنه في النهاية قد قبل نفسه … فقد تجاوز خوف الرفض إلى الأبد.

أما أخته كلير بعدما أقنعتها خالتها ماجي أنها فنانة حقيقية، ودعت منطقة التيه لتبحث لنفسها عن مكان وسط الجميع، ومع انخراطها في كلية الفنون، خاصة بعد أول أعمالها الفنية المميزة، أصبحت في صراع مع زميلها الذي يدور ليخبر الجميع أن عملها المميز لم يكن سوى إلهام مباشر منه شخصياً، وعندما تعجز عن تقديم عمل فني آخر لافت، تعترف لنفسها أنها ربما خُلقت فقط لأن تعيش حياة عادية، وهو ما تفعله بعد أن تصالحت معه.

التصالح مع النفس يتطلب شجاعة مواجهتها، تلك هي القناعة التي يمتلكها آلان بول، وكلما خاض الإنسان تلك المواجهة مبكراً، عاش حياته أكثر سعادة، فالهروب نتيجته مكلفة. الحياة أقصر من أن تُهدر في الخوف، عش حياتك فالموت يأتي أسرع مما تظن.

في هذا الفيديو الاستعادي الذي صنعته منصة HBO، والذي يستعرض مراحل الحزن الخمسة، عبر مشاهد مختلفة من المسلسل، ستجد كثيراً من المعلقين يقولون إن هذا المسلسل قد غيَّر حياتهم، أو غيَّر نظرتهم للحياة، أو أن نهايته حطمت قلوبهم، منبع كل ذلك هو أنه تعمَّق بصدق في أكثر مخاوف مشاهديه، ولذلك فهو عمل لا يُنسى.

# سينما # فن # دراما

فيلم «دخل الربيع يضحك»: موسيقى الحياة اليومية
My Favourite Cake: الحياة كعكة ساخنة في انتظار رفقة
بين الحزن والانتظار: فيروزية المشرق ومشرقية فيروز

فن